قبيل ابتداء القرن التاسع عشر أخذ الاصطدام العنيف بالغرب يهز ذلك
الركود المتوارث هزاً شديداً. فقد جاء ذلك الاصطدام غزوات عسكرية تواصلت حتى ما
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وأسفرت عن استعمار مباشر لسائر أجزاء الوطن العربي باستثناء شمالي اليمن وأواسط شبه الجزيرة العربية. واستمر هذا الاحتلال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية على وجه التقريب، كما تواصل في بعض الأقطار
- كالجزائر - حتى منتصف عقد الستينات من القرن العشرين.
أما في فلسطين فقد أقيمت دولة استيطانية ليهود العالم (دولة إسرائيل)
الأمر الذي ترك نتائج مأساوية كبيرة ومباشرة على
عرب فلسطين، ونتائج شبه مباشرة على بقية العرب في مختلف أقطارهم كانت شدتها
متفاوتة بهذا القدر أو ذاك، بحسب قرب كل قطر أو بعده عن حدود تلك الدولة
الاستيطانية.
ومع انتهاء الاحتلالات، وحصول الاستقلالات، كان نمط جديد من الاستعمار
الاقتصادي العالمي يتولد من طبيعة عمل الرأسمالية العالمية وتطوراتها، ويترك آثاراً سلبية عميقة في نمو سائر المستعمرات السابقة،
وخاصة في نمو أقطار الوطن العربي الغنية بمصادر الطاقة والفريدة في موقعها
الاستراتيجي في قلب العالم الذي أخذت تتكاثر فيه القوى الكبرى المتصارعة اقتصادياً
وأيديولوجياً. وكل ذلك قد ترك - ولا يزال يترك - آثاره في سيرورات الحياة في
المجتمعات العربية، فتنعكس في الأدب شكلاً ومضموناً.[2]
إن ابتداء اصطدام العرب بالغرب، وما أحدثه من ارتجاج قوي على سطح
الحياة العربية الراكدة في أعماقها، لم يسفر عن شعور عربي عام بالعجز وعن استثارة
لمقاومة النتائج العسكرية للغزو المتوالي وحسب، بل هو أيضاً قد طرح على العرب
مشكلة خمود طاقات الإبداع وتجلياته لديهم، كما طرح عليهم إشكالية اللحاق بركب
التقدم العالمي تأسيساً على موروثهم الحضاري من جهة، وفي ظل الاستعمار ذاته من جهة
أخرى. فالغزو لم يكن وقع آلة عسكرية وحسب بل كان يحمل معه أيضاً مفهومات النظام
الحضاري الذي أنجز الآلة، والقيم البرغماتية لذلك النظام والمتضاربة جذرياً مع
القيم العربية الإسلامية السائدة آنذاك، مثلما كان يحمل معه أدوات عمل، وأساليب
تصرف، ونهج سلوك، ووسائل ترفيه فني، وكلها غير مألوفة.
واختصاراً كان وراء آلة الحرب الغازية ومعها كل ما تمخض عنه التكوين
البنيوي الحضاري الغربي من معطيات غير مألوفة ولا معروفة، وحتى غير مقبولة، لدى
العرب في حينها.
وإذا كانت غزوة نابليون لمصر في نهاية القرن الثامن عشر تعد افتتاحاً ومدخلاً لعدم اصطدام العرب بالغرب اصطداماً قوياً فعالاً
فإنه من المفيد ذكر أنه كانت هناك احتكاكات غير صدامية تمثلت في قدوم إرساليات
دينية (كاثوليكية - بروتستنتية - أرثوذكسية) إلى لبنان بوجه خاص، قبل غزو نابليون لمصر بأوقات متفاوتة، ولكنها لن تبرز على
أنها قوى مؤثرة في تطورات الوضع العربي: الأدبي منه والفكري على وجه الخصوص، إلا
في القرن التاسع عشر.
ولا بد هنا من عرض صورة إجمالية للوضع العربي في ظل الحكم التركي
للإحاطة بأجزاء صورته المتكاملة وتبين حقيقة الفواعل التي ستؤثر في التاريخ الأدبي
المعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين كما ستؤثر في تطورات أشكاله الفنية
ومضموناته.
لقد أشير قبلاً إلى التفاوت في علاقة الأقطار العربية بالسلطنة
العثمانية تبعاً لقربها أو بعدها عن إسطنبول (عاصمة
السلطنة) ففي حين كانت أقطار المغرب العربي وكثير من أقطار شبه الجزيرة العربية لا
تخضع إلا لسلطة إسمية للعثمانيين، إذ كان لكل من هذه الأقطار حاكم شبه مستقل ينتقل
الحكم في ذريته بالوراثة، فإن مصر والسودان
(وادي النيل) عرفتا تقسيماً للسلطة بين الولاة الأتراك
(الباشاوات) وبين المماليك (البكوات) وغالباً ما كانت كفة ميزان النفوذ تميل لصالح هؤلاء إزاء كفة أولئك.
أما في بلاد الشام والعراق حيث كانت قبضة السلطة محكمة ومرهقة، فقد
اعتمد نظام التقسيم إلى ولايات، ونظراً إلى ما كانت تعانيه السلطة من انحطاط عام،
وإداري خاصة، فقد عمدت دائماً إلى تعيين ولاة همهم جباية المال إضافة إلى كونهم
متنافسين متنابذين، وهو الأمر الذي جر الكوارث على الرعية، إذ عمت الفوضى، وانتشر
الفساد، واختل الأمن اختلالاً مفزعاً، وكثرت المجاعات والأوبئة، وأثيرت الفتن الطائفية والحروب الأهلية.
فتدهورت الأوضاع الاجتماعية بعد أن تحولت خطوط
التجارة بين اوروپا والشرق عن المنطقة لتسلك طريق رأس الرجاء الصالح.
وبسبب من هذه الأوضاع المختلة إجمالاً تمكنت الدول الأوربية العظمى
آنذاك (إنگلترة - فرنسا - روسيا) من إيفاد إرسالياتها الدينية التي عمدت إلى
إنشاء مدارسها الخاصة أول بأول.
وفي لبنان تمكن الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير (أواخر القرن السادس عشر)
من أن يشيع، لوقت قصير، جواً من التحرر. وقد أسهم
ذلك في تقبل نشاط الإرساليات الذي هيأ للتفاعل لاحقاً مع ما سوف يفد من فكر غربي
مع الغزوات الاستعمارية المقبلة.
وفي فلسطين أثر ظهور الوالي الشيخ ضاهر العمر في ازدهار الحياة الاقتصادية ازدهاراً نسبياً، وكان أحد الزعماء
المحليين في اليمن (مستهل القرن السابع عشر) قد تمكن من طرد الوالي التركي وإقامة
حكم وطني دام وقتاً غير قصير. وإذا كان العثمانيون قد تمكنوا من استعادة شيء من
نفوذهم على اليمن بعد ذلك فقد كان نفوذاً قلقاً ومكلفاً غير مستقر.
وفي أواسط القرن الثامن عشر ظهرت في قلب الجزيرة العربية
(نجد خصوصاً) حركة إصلاح ديني قادها محمد بن عبد الوهاب (1703-1792م)،
ورمت إلى تظهير العقيدة مما لحق بها من بدع وعرفت باسم الحركة الوهابية.
وبتحالف أتباعها من أمراء نجد من آل سعود تمكنت
هذه الحركة من توسيع نفوذها بعيداً.
وكان الإنگليز والبرتغاليون - والهولنديون إلى حد ما - يتنازعون
السيادة على الشواطئ الجنوبية والشرقية لشبه الجزيرة، فتمكن الإنگليز من الفوز
أخيراً بهذه السيادة.
تلك هي السمات الإجمالية لصورة الوضع العربي في ظل السلطنة العثمانية
حتى مستهل القرن التاسع عشر. ولا ينتظر، في مثل هذه الأوضاع، أن تزدهر حركة فكرية
أو نشاط أدبي، وعليه فقد كان النتاج الثقافي مقتصراً على التحشية والتلخيص
والتفسير والجمع، وطغت الشكلية واللفظية طغياناً صارماً على الأدب خاصة.
غير أنه، تحت سطح هذه الصورة التي تبدو في غاية الخمود، كان هناك
تململ واضح ورغبة في الإصلاح تذكيها مقارنة الواقع بالماضي، وتحرضها - إلى هذه
الدرجة أو تلك - مجموعة التفاعلات المتقطعة مع طوالع الفكر الغربي التي حملتها
مؤسساته التجارية والدينية، وقواها كون الوطن العربي معبراً لخطوط المواصلات
والتبادل التجاري بين الشرق والغرب، قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
وقد كان لمجموع ما ترافق مع غزوة نابليون لمصر - أو حملته عليها - آثار لا تنكر في إذكاء نزعة الاستقلال وروح النهضة. غير أنه لا يمكن للمرء أن يقر بالمبالغات التي نسبت إلى تلك الحملة والتي يجعلها كثير من المؤرخين سبباً وحيداً أساسياً لجملة التحولات التd