لقد حمل نابليون معه مطبعة عربية كان قد استولى عليها من الفاتيكان،
ولكنه خصصها في المدة القصيرة التي استغرقتها الغزوة (سنتين وبضعة أشهر) لطبع ما
كان يهمه من منشورات دعائية. وقد أنشأ ما أسماه مجمعاً علمياً، ومكتبة للمطالعة،
ومسرحاً للترفيه عن جنوده، كما شق بعض الطرق. وهو ما يظهر مفصلاً في تاريخ الجبرتي، إلا أن
الحملة واجهت عداء داخلياً وخارجياً قوياً، وشبت في وجهها ثلاث ثورات، وذلك ما منع
استقرارها فانتهى بها الأمر إلى الجلاء عن مصر بعد هزيمة جيش نابليون أمام أسوار عكا، وتحطم أسطوله في أبي قير.
إن عرب مصر قد اطلعوا - بوساطة تلك الحملة -
على المسرح والمطبعة والصحافة، وتعرفوا شيئاً من
أهميتها وضرورتها، فتحرض الاهتمام بها، وهو ما ساعد لاحقاً على سرعة نشوئها في
مصر، غير أنه ما كان لتلك «البذور النهضوية» أن تنمو إلا بوجود التربة الصالحة،
فالحملة إذاً أسهمت في بزوغ النهضة، لكنها لم تكن إلا واحداً من أسبابها الرئيسة
ليس أكثر.
وفي تلك الغزوة أو الحملة تم اكتشاف حجر رشيد، ثم استطاع مكتشفه
العالم جان فرانسوا شامپليون Champollion
حل رموز الخط الهيروغليفي فانكشفت حقائق تاريخية حضارية عريقة كانت مجهولة، الأمر الذي أوجد
دافعاً إضافياً للعرب المصريين كي يتعجلوا ابتداء النهضة والخروج من حال الخمود
السابق. كما أن العلماء المرافقين للحملة - وعددهم يزيد على أربعين - قاموا بتأليف
كتاب من عشرة مجلدات، بالفرنسية، سموه، وصف مصر Description
de l'Egypte صار فيما بعد عوناً للباحثين في تحري أوضاع
ذلك القطر العربي من جوانبها المختلفة زمن الحملة.
ولعل أهم ما انجلت عنه الحملة هو أنها كانت سبباً في ظهور محمد علي،
ذلك الضابط الألباني الطموح الذي قدم ليشارك في إخراج الفرنسيين من مصر، فلمع نجمه
وانتهى به الأمر إلى أن ولاه الباب العالي (السلطان العثماني) عليها. ومع أنه لم
يكن متعلماً فقد ظهر أنه كان يدرك جيداً فضل العلم في نهضات الأمم. فشجع العلماء
وأرسل البعوث إلى فرنسا فكان من رجالها أوائل بناة النهضة الفكرية والثقافية في
مصر. واستعان كذلك بضباط من فرنسة وغيرها لتدريب الجيش الحديث الذي أنشأه ولتنظيم
مؤسساته. وفي الوقت ذاته أنشأ المدارس التي تعلم العلوم الحديثة وتعنى بترجمة
كتبها، وأسس أول جريدة في الوطن العربي صدر بعضها باللغة العربية.
ولعل أهم خلفائه هو الخديوي إسماعيل (1863-1879)
الذي أنشأ مدارس للبنات، وأسس المكتبة الخديوية
(دار الكتب المصرية اليوم)، وقامت في عهده بعض الكليات الأمريكية في القاهرة والصعيد
مثلما انتهى حفر قناة السويس (1859-1869) وتم افتتاحها، فاستعاد الوطن العربي
مركزه ممراً لطرق التجارة العالمية بين آسيا وأوربة، بما لذلك من منعكسات مهمة على
سيرورات التفاعل الثقافي العربي مع ثقافات القارتين المذكورتين.
أما الحملتان المصريتان على بلاد الشام (1831-1833 و1839-1840) فقد أشاعتا فيها جواً شجع علم
الإرساليات فزاد بذلك من تفاعل أبنائها مع الفكر والثقافة الغربيين، إذ أسست تلك
الإرساليات عدداً من المدارس واستجلبت مطابع لايزال بعضها يعمل حتى الآن.
وقد سبقت هاتين الحملتين حملة أخرى على شبه الجزيرة العربية (1812-1819) منيت بالإخفاق لكنها تركت
شعوراً - ولو غائماً - بأهمية وحدة العرب وكما نبهت الأذهان إلى ما كانت تظهر
بوادره من نهضة ثقافية في مصر.
وقد ضم محمد السودان إلى مصر محققاً وحدة وادي النيل، وذلك بين عامي 1821-1823.
لكن الإنگليز قاموا باحتلال السودان بعد ذلك فواجهتهم ثورات أهمها ثورة المهدي (1881-1885)،
وانتهى أمر السودان إلى ما سمي السودان
المصري الإنگليزي في 1898 وكانت السلطة الفعلية فيه للإنگليز، ثم أصبحت مصر نفسها تحت الحماية
البريطانية، وعلى أي حال فإن محاولات محمد علي لضم
الأقطار العربية في دولة واحدة قد أيقظت حساً قومياً عربياً شعبياً. وهو ما سيظهر
أثره بقوة.
ومع أن ليبيا ضمت إلى السلطة العثمانية عام 1556، فقد ظلت تتمتع باستقلال ذاتي،
وخاصة في عهد الأسرة القرمنلية (1724-1853)، أما أقطار المغرب العربي الأخرى فلم
تتبع السلطنة إلا إسمياً، واستقلت تونس عنها عام 1790 استقلالاً تاماً، وظلت
الجزائر على تبعيتها الإسمية لاصطنبول منذ أن احتلتها عام 1518، أما سلطنة مراكش (المملكة
المغربية اليوم) فلم تخضع للسيادة العثمانية مطلقاً. وفي عام 1830 احتلت فرنسة
الجزائر، ثم تونس عام 1881، واحتلت إسبانيا أجزاء من مراكش
(سبتة ومليلة ومنطقة الريف)
ثم احتلت فرنسا مراكش بأكملها بين العامين
1901-1904 وتخلت عن بعض أجزائها لإسبانيا عام 1912.
وإذا كان الخمود الثقافي في أقطار الشمال الإفريقي موازياً لنظيره في
بقية أرجاء الوطن العربي فإن الاحتلال الفرنسي لأقطار المغرب قد خلق وضعاً ثقافياً
متناقضاً ولاسيما في الجزائر التي ضمتها فرنسة إليها وأعلنت أنها جزء منها وفرضت
عليها لغتها حتى الاستقلال عام 1962، فذلك الاحتلال قد ولد اعتصاماًَ أشد بالثقافة
الإسلامية التقليدية السائدة من جهة، ومن جهة أخرى فتح الأذهان هناك على ثقافة
الغرب وفكره. لكن آثار ذلك سوف تتأخر في الظهور، وهذا ماجعل بواكير النهضة
وتطوراتها خلال القرن التاسع عشر وقسم غير قليل من القرن العشرين تكاد تنحصر في
مصر وبلاد الشام ثم العراق إلى حد ما.
وما يمكن أن يخلص إليه في هذا التقديم هو أن تلك النهضة يجب أن ينظر
إليها في سياق فعالية النمط الحضاري الغربي وحركته الاستعمارية، وعد هذه النهضة
محاولة للرد على تحديات حركة هذا النظام لوجود الأمة العربية من موقع الصراع معه
من أجل البقاء والتقدم. إن ثمة منظومتين ثقافيتين تتفاعلان في إطار تناقضاتهما
المفهومية والقيمية: الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الغربية الرأسمالية
الاستعمارية. وفي الظروف السائدة حتى اليوم فإن الثانية هي المهيمنة، أما الأولى
فمتعثرة الخطا وتابعة من منظور علاقات أصحابها بالغرب.
وهناك أخيراً أمراً لابد من الإشارة إليه لأنه يتضمن في النهاية
إشكالية ذات صلة بالمصطلح الذي تندرج تحته مادة هذا البحث. فمصطلح العصر الحديث
هنا يوحي بإشارة ضمنية إلى فكرة الحداثة Modernisme
من حيث كونها تملأ هذا العصر بمعطياتها على سائر
الصعد. وتعد «الحداثة» في منظور الفكر الأوربي - وهو مصدر هذا المصطلح - حالاً من
القطيعة المعرفية الشاملة: فلسفياً وعلمياً واعتقادياً.. وحالاً من القطيعة
الشاملة في التقنية والاقتصاد والبنى والعلاقات الاجتماعية.. بين ما أنجزته أوربة
منذ ابتداء نهضتها حتى اليوم وما سبق ذلك في العصر الأوسط وفق تقسيمات التاريخ
الغربي حسبما صنفها الفيلسوف الألماني هيگل Hegel.
ولما كان العصر العربي الحديث»- أي القرنان التاسع عشر والعشرون - لا
يتضمن شيئاً من تلك القطيعة الأوربية المركبة، ولما كانت التبعية هي سمته الكلية،
ولما كان الأدب العربي فيه متأثراً بالضرورة بهذا الوضع التاريخي الحضاري الإجمالي
التابع: سواء من حيث تاريخية إنتاجه أو من حيث أنماطه الفنية، ولدلالاته الفكرية
والنفسية، وأساليب إنشائه خطاب محملاً بروح هذا العصر. فإن معنى الحداثة هنا لا يشير إلى تعبيرات
فنية مؤصلة على تغيرات نهضوية جذرية متواصلة في الواقع المعاش، بل هي تشير إلى
تزامنات فنية عارضة - إذا صح التعبير - لواقع يضطرب ويتماوج فيه خليط من مورثات
مراحل الحضارة العربية إبان ازدهارها، لكنه خليط مأخوذ بصورة انتقائية، وخليط آخر
من تناثرات ما يصل من علوم الغرب وفلسفاته وفكره وأدبه.. فيصطدم الخليطان
ويتقاطعان عند حدين من رغبات العرب المتناقضة: رغبات تمسكهم بموروثهم، ورغبات
لحاقهم بالغرب المهيمن عموماً.
إن هذه الإشكالية قد تركت ولا تزال تترك آثارها بقوة في الأدب العربي
المعاصر. وهي إشكالية يجب أخذها دائماً بالحسبان عندما يوصف هذا الأدب وزمنه
«بالحداثة». إذ بها - بوصفها تعبيراً عن انعدام القطيعة وعن التبعية السابقتي
الذكر - ترتبط مختلف المصطلحات ذات الصلة بما هو معالج في هذه المادة.
وبمراعاة هذه الإشكالية يمكن القول: إن ثمة يقظة عربية عامة قد ابتدأت، نشطة، في مصر في زمن حكم محمد علي باشا، فلقيت تجاوباً سريعاً نسبياً في بلاد الشام. وأخذت القوى الكامنة في الأمة تتيقظ بفعل مختلف البواعث التي سبق ذكرها. فتسارع إنشاء المدارس الوطني