نشأة الدراسة اللهجية
يتوقع منك عزيزي الدارس بانتهائك من هذا
الموضوع أن تحقق الأهداف التالية:
1- أن تقف على نشأة الدراسات اللهجية.
2- أن تعرف الأدلة التي يستدل بها على وجود
اللهجات.
3- أن تعرف أنواع اللهجات.
4- أن تدرك مظاهر اختلاف اللهجات وأمثلتها.
أولاً عند العرب:
أشرنا من قبل إلى أن علماء العربية القدامى
لم يتركوا مؤلفا مستقلاًّ في اللهجات العربية, ولكن ليس معني ذلك أنهم لم يهملوها
بالكلية, فقد ألف كثير منهم كتبًا أطلقوا عليها اسم «اللغات» من هؤلاء: يونس بن
حبيب (ت 283ه), والفراء (ت 207ه), وأبو عبيدة (ت 210ه), والأصمعي (ت 212ه),
وأبو يزيد الأنصاري (ت 215ه), وغيرهم.
كما ألفوا في «لغات القرآن» من ذلك «اللغات
في القرآن» رواية ابن حسنون المقرئ المصري بإسناده إلى ابن عباس- رضي الله عنهما-([27]), وكتابه: «ما ورد في القرآن الكريم من لغات
القبائل» لأبي عبيد القاسم بن سلام([28]).
وقد وردت إشارات كثيرة في كتب التراث على
اختلاف اهتماماتها, إلى اللهجات العربية.
كما وردت موضوعات خاصة باللهجات في كتب
الأقدمين, ففي «الخصائص» لابن جني (ت 392ه(, «باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان
فصاعدا»([29]), و»باب في تركيب اللغات»([30]), و»باب اختلاف اللغات وكلها
حجة»([31]), و»باب في العرب يسمع لغة غيره أيراعيها ويعتمدها, أم يلغيها ويطّرح
حكمها»([32]).
وفي «الصاحبي» لابن فارس (ت 395ه(, و»باب
القول في اختلاف لغات العرب»([33]), و»باب اللغات المذمومة»([34]), و»باب انتهاء
الخلاف في اللغات»([35]).
وفي «المزهر في علوم اللغة وأنواعها»
للسيوطي, نجده قد خصص النوع العاشر لمعرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات([36]), والنوع الحادي عشر لمعرفة الرديء المذموم
من اللغات([37]), والسادس عشر لمعرفة مختلف اللغة([38]), والسابع عشر لمعرفة تداخل اللغة([39]).
وفي العصر الحديث نمت دراسة اللهجات
العربية وازدهرت, على الرغم من صعوبتها, فكانت أول دراسة للهجات, الرسالة التي
ألفها المرحوم: حفني ناصف بعنوان «مميزات لغات العرب, تخريج ما يمكن من اللغات
العامية عليها, وفائدة علم التاريخ من ذلك» وقد ألقاها في مؤتمر المستشرقين الذي
انعقد في فينا سنة 1886م , ثم جاءت بعد ذلك الدراسة القيمة للمرحوم الدكتور:
إبراهيم أنيس تحت عنوان «في اللهجات العربية» وتعدّ هذه الدراسة مصدرًا مهمّا لكل
من كتب عن اللهجات في العصر الحديث.
كما ألفت رسائل جامعية خاصة في اللهجات
العربية, وأهمها جميعًا «اللهجات العربية كما تصورها كتب النحو واللغة» للدكتور:
أحمد علم الدين الجندي- دكتوراه سنة 1965م, وقد طبعت تحت عنوان: «اللهجات العربية
في التراث».
وقد خصص مجمع اللغة العربية بالقاهرة
للدراسات اللهجية لجانًا خاصة, تضم عددًا كبيرًا من المتخصصين في هذا الشأن, وما
ذلك إلا لأهمية هذا النوع من الدراسات, كما خصص لها الجامعات المصرية مساحات في
مناهجها الدراسية([40]).
ثانيا: عند الغربيين:
لم تلق الدرسات اللهجية عند الغربيين
اهتماما يذكر إلا في نهاية القرن الثامن عشر, حيث بدأت تدور بين العلماء «مناقشات
تتعلق بمستوي الصواب اللغوي, وبمشكلة انقسام اللغة إلى لهجات, ومشكلة اللهجات
الطبقية»([41]).
وعلى الرغم من هذه المناقشات إلا أنها لم
تكن بالقدر الكافي, فقد كان العلماء حتى ذلك الوقت عازفين عن دراسة اللهجات وذلك
للأسباب الآتية([42]):
أ- اتساع مجال البحث في اللغة الفصحى, فلم
يكن لديهم متسع لدراسة اللهجات.
ب- نظرة العلماء في ذلك الوقت- إلى دراسة
اللهجات على أنها مصدر خطر على الأدب, ولذا ينبغي الاقتصار في الدراسة على الفصحى.
ج- دراسة اللهجات تتطلب الأسفار والرحلات,
للوقوف على مصادرها من أصحابها, وذلك يتنافى مع طبيعة علماء اللغة في ذلك الوقت,
فقد كانوا يؤثرون الراحة.
وفي القرن التاسع عشر «كانت النتائج ذا
قيمة كبيرة, حيث تركز الاهتمام على الصيغ اللهجية, وعلى أنواع من الكلام لم يكن
يُنظر إليها حتى تلك اللحظة إلى على أنها لغات تافهة لا تستحق الدراسة, وحيث إن
اللهجات لم تكن من جميع جوانبها- مسجلة في خلال تطورها التاريخي, فقد أدي هذا إلى
توجه الاهتمام إلى اللغات الحية, ولهجاتها المتشعبة»([43]).
ثم واصلت دراسة اللهجات تقدمها في القرن
العشرين, على هذا فهي من العلوم الحديثة, يقول الدكتور: إبراهيم أنيس: «تعد دراسة
اللهجات من أحدث الاتجاهات في البحوث اللغوية, فلقد نمت هذه الدراسة بالجامعات
الأوربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, حتى أصبحت الآن عنصرا هامًّا بين
الدراسات اللغوية الحديثة, وأُسِّستْ لها في بعض الجامعات الراقية فروع خاصة
بدراستها, تعني بشرحها, وتحليل خصائصها, وتسجيل نماذج منها تسجيلا صوتيًّا يبقي
على الزمن»([44]).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن دراسة اللهجات
تقدمت تقدمًا واضحًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, على يد
مجموعة من علماء اللهجات الغربيين من أمثال: جاستون باريس, وأنطوان توماس
الفرنسيين, وكورنو, وأسكولي الإيطاليين ومن أشهر المشتغلين بتلك الدراسة «الأب
روسلو», الذي اهتم بالناحية الصوتية في اللهجات, و«جيليرون», الذي درس اللهجات من
ناحيتها الدلالية([45]).